"الوحدة.. رفيقة العمر الأخيرة"

في قرية صغيرة، كان يعيش رجل طيب يدعى "عم طلعت"، كان جاري وصديقي الوحيد. كان عم طلعت رجلاً بسيطًا، يعيش حياة متواضعة بعد أن باع بيته الكبير الذي كان يسكنه مع بناته الخمس. قرر أن يبيع بيته ليجهز بناته للزواج، ولم يتبقَّ له سوى مبلغ بسيط اشترى به قطعة أرض صغيرة في وسط الزراعة. بنى عليها غرفة صغيرة، أصبحت ملجأه الأخير بعد أن تزوجت بناته وتركنه وحيدًا.
كان عم طلعت يقضي أيامه في تلك الغرفة، يتناول طعامه، ويشرب شايَه، ويدخن شيشته، ويشاهد التلفزيون ليقتل وقت وحدته. لم يكن يزوره أحد سواي، وكأن الدنيا قد نسيته تمامًا. في إحدى الأمسيات، كنا نجلس معًا نشاهد فيلمًا للفنان الكوميدي عادل إمام، وكان عم طلعت يحمل شيشته بين يديه، بينما كنت أنا أحمل كوب الشاي الدافئ. فجأة، نظر إليَّ وقال: "وليد، أنا هموت لوحدي وأنا بتفرج على فيلم لعادل إمام."
.jpg)
لم أُعِر كلامه اهتمامًا كبيرًا في ذلك الوقت، ظننت أنه يمزح أو يتحدث من فرط الوحدة. لم أكن أتصور أن أحدًا يمكن أن يشعر باقتراب نهايته بهذه الطريقة، خاصةً أنه لم يكن شيخًا طاعنًا في السن. ولكن بعد شهر من ذلك اليوم، عدت إلى غرفته لأجده قد رحل عن عالمنا. كان نائمًا في سلام، وكأنه قد سافر إلى عالم آخر بعيد جدًّا، لن يعود منه أبدًا.
نظرت إلى التلفزيون، فوجدت نفس المشهد الذي كنا نشاهده معًا، وكان عادل إمام يبكي على الشاشة.

شعرت بأنها صدفة غريبة، وكأن الفيلم قد شعر بفقدان شريكه الذي كان يجلس خلف الشاشة. قررت أن أصور ذلك المشهد، ليكون ذكرى لي كلما رأيته، أتذكر عم طلعت وأدعو له. كان رجلاً طيبًا، ضحى بكل ما يملك من أجل بناته، ولكنه انتهى به المطاف وحيدًا في غرفة صغيرة وسط الحقول.
عندما كنت أبحث بين أغراضه، وجدت رسالة مكتوبة بخط يده، يقول فيها: "يا وليد، لما تقرأ الرسالة دي، هبقى بعيد أوي. الغرفة دي خليها لأي واحد يبيع بيته علشان يجهز بناته، يبقى يجي يقعد فيها. وأمانة عليك، لو كان وحيد زيي، تشقر عليه، علشان ميموتش لوحده قدام التلفزيون زي ما أنا هموت. ادعيلي، لأن بناتي مش هيفتكروني... اللي بيتنسى وهو عايش، عمره ما يفتكروه بعد ما يموت."
قرأت الرسالة ودعوت له من كل قلبي. رحم الله عم طلعت، ورحم كل من عاش وحيدًا ومات وحيدًا. الوحدة ليست اختيارًا سهلًا، بل هي طريق يسلكه الأقوياء الذين يتحملون الحياة بكل ما فيها من صعاب. الإنسان القوي هو من يستطيع أن يعيش ويأكل ويشرب ويضحك ويبكي وهو وحيد، دون أن يحتاج إلى شريك أو صديق.
تذكرت مقولة جدي رحمه الله: "جنة من غير ناس ما تنداس." في ذلك الوقت لم أكن أفهم معناها، ولكن الآن فهمت. الجنة الحقيقية هي أن تكون محاطًا بمن تحب، وأن تكون الذكريات دافئة، لا باردة كالوحدة.