إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأوَّلين والآخرين، وقيُّوم السماوات والأرَضين، أرسل رسله حجةً على العالمين ليحيى من حيَّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، ترك أمته على المحجَّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات ربي وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار، وصلوات ربي وسلامه عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار، وصلوات ربي وسلامه عليه ما غفل عن ذكره الغافلون، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واستنَّ بسُنَّته إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله، كلمة عظيمة الشأن لأجل تحقيقها خلق الإنس والجان، وسائر خلق الرحمن، فأُرسِل بها المرسلون، ونزل شرع الله على العالمين، ولأجلها نُصِبت الموازين، ودُوِّنت الدواوين، وعنها يُسأل الأوَّلون والآخرون، قام عليها سوق الآخرة، وانقسم الخلق في تحقيقها إلى مؤمنين وكفار، وأبرار وفجار، ومن ثم فريق في الجنة، وفريق في النار، هي منشأ الخلق والأمر، والثواب والعقاب، هي العروة الوثقى، وكلمة التقوى، هي كلمة الشهادة، ومِفْتاح دار السعادة، هي كلمة التوحيد، "لا إله إلا الله"، شهد الله بها وهو خير الشاهدين، والملائكة المكرمون، وأولو العلم العاملون، قال تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18]، من عظمة "لا إله إلا الله" أنها تنفع قائلها صادقًا أو كاذبًا، فمن قال "لا إله إلا الله" كاذبًا عصم الدم والمال، وإن قالها مؤمن سعد في الدنيا ودار المآل، هي فارقة بين الإيمان والكفر، وأول واجب على العبد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن ((إنك تقدم قومًا أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه "لا إله إلا الله").
عباد الله، إن النصوص الواردة في كلمة التوحيد تدل على عظم شأنها، وجلالة قدرها، وكثرة خيراتها وبركاتها على أهلها، ففي الكتاب العزيز يقول تبارك وتعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ [محمد: 19].
عباد الله، ورد في فضلها أحاديث كثيرة؛ فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله حَرَّم اللهُ عليه النارَ))، وعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه، عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من عبدٍ قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك، إلا دخل الجنة))، وهي خير ما يذكر الله به ويدعى؛ فعن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قال موسى: يا رب، علِّمْني شيئًا أذكرك وأدعوك به، قال: يا موسى، قل: لا إله إلا الله، قال موسى: يا رب، كل عبادك يقولون هذا، قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله))، وهي خير الدعاء؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خيرُ الدعاءِ دعاءُ عرفة، وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير))، وفي حديث صاحب البطاقة التي فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، لما وقف به بين الخلائق وكان عليه تسعة وتسعون سجلًّا مدادًا، كل سجل له مد البصر- يعني من السيئات- فتوضع السجلات في كفة، وفي الكفة أخرى البطاقة، فتطيش السجلات، وتثقل البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء.
التوحيد أعدل العدل، والشرك أظلم الظلم، أليس الله تبارك وتعالى هو الذي خلقنا فسوَّانا، وأوجدنا وأحْيانا، وبإحسانه ربَّانا، ومتى ما دعوناه أجابنا ولبَّانا، ومن كل كرب وضيق نجَّانا، وكل دليلٍ على خلقه وعبوديته وضح لنا وأبانا، وبيده نفعنا وكل أمرنا، وغير الله لا يملك من أمره شيئًا فضلًا عن غيره، وغيره لا يملك من أمره شيئًا فضلًا عن غيره، ومع ذلك يدعى مع الله غيره، ويعبد مع الله سواه، فسبحانك ربي ما أحلمَك! فسبحانك ربي ما أعظمَك! قال تعالى: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ﴾ [الفرقان: 3]، ولقد أثبت الله ربوبيته وخلقه وألوهيته في كتابه العزيز في مواضع عديدة كي لا يكون للناس حجة يوم القيامة، قال ربي تبارك وتعالى: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ * أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الطور: 35 - 43].
عباد الله، إنه ومع عظيم أثر هذه الكلمة إلا أن لها شروطًا يجب توفرها، قيل للحسن البصري رحمه الله: إن أناسًا يقولون: من قال: "لا إله إلا الله" دخل الجنة، فقال: من قال: "لا إله إلا الله" فأدَّى حقَّها وفرضها، دخل الجنة.
وقال وهب بن منبه لمن سأله: أليس كلمة "لا إله إلا الله" مِفْتاح الجنة قال: بلى ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، وإن جئت بمفتاح له أسنان، فتح لك، وإلا لم يفتح.
ولقد اعتنى العلماء بشروط "لا إله إلا الله"، وقالوا: إنها سبعة:
أولًا: العلم في معناها نفيًا وإثباتًا، فتنفي كل معبودٍ بحق إلا الله بحيث يعلم القلب ما ينطق به اللسان، فلا يصح عمل لم يسبقه علم، قال تبارك وتعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ [محمد: 19]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من مات وهو يعلم أنه "لا إله إلا الله"، دخل الجنة)).
ثانيًا: اليقين المنافي للشك؛ وهو أن ينطق بالشهادتين عن يقينٍ يطمئن إليه القلب دون شك ولا ريب، قال الله تبارك وتعالى في أوصاف المؤمنين: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة: 4]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه، بشّره بالجنة))؛ رواه مسلم.
ثالثًا: الصدق المنافي للكذب المانع من النفاق؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((أبشروا وبشروا مَن وراءكم أنه من شهد أنه "لا إله إلا الله" صادقًا من قلبه دخل الجنة)).
رابعًا: الإخلاص المنافي للشرك خلافًا لمن قالها ابتغاء متاعٍ من مُتع الدنيا، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أسعد الناس بشفاعتي من قال: "لا إله إلا الله" خالصًا من قلبه)).
خامسًا: المحبة لهذه الكلمة، ولما دلت عليه المنافي للكره والبغض، وهو أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، قال ابن القيم رحمه الله: ((الله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته الجامعة لكمال محبته مع الخضوع والانقياد لأمره تبارك وتعالى)).
سادسًا: القبول المنافي للرد، فيصدق الأخبار، ويؤمن بكل ما جاء في نصوص الوحيين، ويقبل كل ذلك، قال تبارك وتعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285].
سابعًا: الانقياد لحقوقها، وهي الأعمال الواجبة إخلاصًا لله، وطلبًا لمرضاته، قال تبارك وتعالى: ﴿ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ [لقمان: 22]، قال ابن كثير في تفسيره مخبرًا عمن أسلم وجهه لله؛ أي: أخلص العمل له واتَّقاه.
عباد الله، ولعظمة هذه الكلمة وتحقيقها في الأرض لاقى المرسلون وأتباعهم من أقوامهم صنوف الأذى، وصبروا على إعلاء كلمة الله، فنوحٌ يتعرض للسخرية والتكذيب، ولوطٌ للتهديد، ويقتل في سبيلها يحيى ورسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - يتحمَّل من الأذى في سبيل إبلاغ هذه الكلمة وتحقيقها، ويصيبه الهم والغم لإعراض قومه، فَيُسَب ويُشتَم، ويرمى بما ليس فيه، ويوضع سلا الجزور على ظهره، ويُغرَّب عن بلده ووطنه، ويدمى قدمه، ويشج رأسه، وتكسر رباعيته، ومع ذلك يتقطع فؤاده عليهم لمعرفته بمصير من يكذبه ويعذب أتباعه بسبب إعلاء كلمة الله، فيسحب في رمضاء مكة في حر الظهيرة بلال، وتتعرض سمية وزوجها وابنها لعظيم المصاب والنكال، ثم تُسلِمُ سمية الروح لبارئها لتفوز بأعظم المنال، أول شهيدةٍ في الإسلام، ويقتل عم الرسول - صلى الله عليه وسلم - حمزة مع الشهداء الكرام لتعلو كلمة الإسلام، ونحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله كما قال الفاروق الذي أعز الله به الإسلام، استجابةً لدعوة النبي الرسول الإمام عليه الصلاة والسلام، وما سالت دماء الشهداء عبر التاريخ إلا لتحقيق هذه الكلمة في الأرض والوجدان، فهنيئًا ثم هنيئًا لمن جعل "لا إله إلا الله" نبراسًا لحياته معلمًا ومتعلمًا وعاملًا، ولنثق بنصر الله القريب متى ما صدقنا مع الله، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [المائدة: 55، 56].
الخطبة الثانية
عباد الله، الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد:
العمل بلا إله إلا الله مراتب يرتقي فيها الناس حسب إيمانهم.
عباد الله، إن نعم الله علينا عظيمة، وأعظم نعمة أنعم الله بها علينا أن جعلنا مسلمين، مُتَّبعين لكلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، والحمد له أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.
عباد الله، هل أدينا شكر هذه النعمة؟ يا طالب العلم، صغيرًا كنت أو كبيرًا، هل حرصت على تعَلُّم هذه الكلمة العظيمة، وتفكَّرت فيها، ويا من أكرمه الله بالولد، كم نصيب تعليم "لا إله إلا الله" لولدك وأحبابك في يومك وليلتك، ويا من أكرمه الله بالعلم، هل صبرت على تعلم المتعلمين وقلة فهمهم وإدراكهم، وشجَّعْتهم وحبَّبتهم بالعلم، شكرًا لنعمة ربك ونعمة التوحيد والعلم، ويا صاحب المال الوفير، هل سخرت مالك في سبيل الدعوة إلى "لا إله إلا الله"؟ وتعليمها وتشجيع العلم والتعليم، وخيره تحفيظ كتاب الله الكريم، عبد الله، تفكَّر ثم تفكَّر ثم تفكَّر، لا معبود بحقٍّ إلا الله، فلا تقدم هوى نفسك وشيطانك على أمر ربك، ربنا لك الحمد بأن أكرمتنا بلا إله إلا الله، فأحْيِنا عليها، وثبتنا عليها، واجعلها آخر كلامنا من الدنيا حتى نسعد برضاك وجنتك، ووالدينا وأزواجنا وإخواننا وعلمائنا، ومن له حق علينا، يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعلنا معظمين لأمرك، مؤتمرين به، واجعلنا معظمين لما نهيت عنه، منتهين عنه، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.