الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله وصحبه الغر الميامين، ومن تبع هداهم إلى يوم الدين؛ أما بعد: فمن مظاهر العنف الأسري: العنف اللفظي، وهو من أكثر وأشهر مظاهر العنف انتشارًا، خاصة بين أفراد الأسرة. مفهوم العنف اللفظي: هو عبارة عن كل لفظ يحمل التجريح، ويؤذي المشاعر يلفِظه أحد أفراد الأسرة إلى غيره من نفس الأسرة؛ بقصد إيذائه، وامتهانه، وتنقيصه. صور العنف اللفظي: له صور متعددة؛ كالألفاظ الجافة الجامدة من السبِّ والقذف، والسخرية والاستهزاء، والتنابز بالألقاب، والصراخ، ورفع الصوت، والشتم والتوبيخ، والتأنيب والتهديد بالطلاق أو الخلع، والتحقير المستمر، والوصم بالفقر، والتفاخر بالأهل والأنساب، وكل ما من شأنه الأذى، والاحتقار، والإهانة، والازدراء. وقد حرَّم الشرع أذية المسلمين؛ قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58]. وأذية المؤمنين والمؤمنات تكون "بالأفعال والأقوال القبيحة، كالبهتان والتكذيب الفاحش المختلق... وقد قيل: إن من الأذية تعييره بحسَبٍ مذموم، أو حرفة مذمومة، أو شيء يثقل عليه إذا سمعه؛ لأن أذاه في الجملة حرام"[1]. والعنف اللفظي داخل الأسرة قد يكون من الزوج أو الزوجة أو الأولاد. أولًا: العنف اللفظي من الزوج: ومن الثابت أن الكلام الحاد، والقول القبيح ليس من صفات المؤمن؛ عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الفَاحِشِ، وَلَا البَذِيءِ))[2]. قوله: (ليس المؤمن بالطعان)؛ أي: ليس المؤمن الكامل طعانًا، وهو الذي يعيب الناس، (اللعان): من يكثر اللعن، (الفاحش): الشاتم، (البذيء): الذي ليس له حياء[3]. فمن مظاهر الرذائل الخُلُقية الطعن واللعن والفحش والبذاءة، والزوج الصالح عفيف اللسان، لا يتكلم برديء الكلام، ولا بفُحْشِ القول، ولا يشتم ولا يسب أحدًا، ولا يهدد بالطلاق، ولا يلفظ الألفاظ القبيحة، ويبغض بذيء اللسان، وكثير الخصومة، وسيئ القول الذي يتحدث عن العورات والرذائل، وسفاسف الأمور، التي يجب سترها، ويحرُم إفشاؤها. ومن العنف اللفظي، الدعاء على الأهل والمال والولد؛ عن جابر بن عبدالله، قال: قال رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ))[4]. قوله: (لا تدعوا على أنفسكم)؛ يعني: لا تدعوا دعاء سوء على أنفسكم، ولا على أولادكم، ولا على أموالكم؛ مخافة أن توافق دعوتكم ساعة إجابة، فيُستجاب دعاؤكم السوء، ثم تندموا على ما دعوتم، ولا تنفعكم الندامة؛ يعني: لا تدعوا بسوء، بل ادعوا بخير[5]. مما يُستفاد من الحديث: لله تعالى ساعات يجيب فيها الدعوات. يُنهَى عن الدعاء على نفسه وأهله وماله في الغضب. دلَّ على أنَّ الدعاء وقت الغضب قد يُستجابُ لمصادفته ساعة إجابة. ثانيًا: العنف اللفظي من الزوجة: النساء سبب لإذهاب عقل الزوج اللبيب، حتى يفعل أو يقول ما لا ينبغي؛ عن أبي سعيد الخدري، قال: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فِطْر إلى المصلَّى، فمرَّ على النساء، فقال: يا معشر النساء، تصدَّقْنَ؛ فإني أُرِيتُكُنَّ أكثرَ أهل النار، فقلن: وبِمَ يا رسول الله؟ قال: تُكْثِرْنَ اللعن، وتَكْفُرْنَ العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهبَ لِلُبِّ الرجل الحازم من إحداكن، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصُمْ، قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان دينها))[1].
فقوله عليه السلام: (تكثرن اللعن)، وأصل اللعن: الإبعاد من الخير، ويستعمل في الشتم والكلام القبيح لأحد، يعني: عادتكن كثرة الشتم، وإيذاء الناس باللسان، قوله: (وتكفرن العشير)، كفر يكفر كفرانًا: إذا جحد وأنكر النعمة، وترك أداء شكرها[2].
وعن نكاح سليطة اللسان؛ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "والله ما أفاد امرؤٌ بعد إيمان بالله خيرًا من امرأة حسنة الخلق، ودودٍ، ولودٍ، ووالله ما أفاد امرؤ فائدة بعد كفر بالله شرًّا من امرأة سيئة الخلق، حديدة اللسان، والله إن منهن لَغُلًّا ما يُفدى منه، وإن منهن لغُنْمًا ما يُحذى منه"[3][4].
ورأى أبو الدرداء رضي الله عنه امرأة سليطة اللسان، فقال: "لو كانت هذه خرساء كان خيرًا لها"[5].
فالزوجة الصالحة تتقرب إلى الله جل وعلا بحسن قولها لزوجها، وأهلها، وأما الزوجة السيئة الخلق سليطة اللسان، وقليلة الاحترام، كثيرة العناد، المجاهرة بعصيان زوجها، ومخالفة أمره، والْمُلِحَّة عليه في طلب ما ليس عنده، غير مكرمة لنفسها أو لزوجها وأهلها، تحمل زوجها على كره عشرتها، ورغبته مفارقتها. ثالثًا: العنف اللفظي من الأولاد: الإحسان إلى الوالدين واجب، والإساءة إليهما شر؛ قال تعالى: ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ [الإسراء: 23]. وعن تضجُّر وتبرُّم الولد العاق لوالديه؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الأحقاف: 17]. فهذه الآية عامة "لكل من يقول ذلك لوالديه، ونزولها في شخص معين لا ينافي العموم؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالمراد من (الذي قال لوالديه أفٍّ لكما): كل من يقول ذلك لهما[6]. وسباب الوالدين من كبائر الذنوب؛ عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه))[7]. فهذا الحديث "أصل في قطع الذرائع، وأن مَن آلَ فعله إلى محرَّمٍ وإن لم يقصد، فهو كمن قصده وتعمده في الإثم، ألَا ترى أنه عليه السلام نهى أن يلعن الرجل والديه، فكان ظاهره تولي اللعن، فلما أخبر أنه إذا سبَّ أبا الرجل فسبَّ الرجل أباه وأمه، كان كمن تولى ذلك بنفسه، وكان ما آل إليه فعله أنه كَلَعْنِهِ في المعنى؛ لأنه كان سببه"[8]. وإن من مظاهر عقوق الوالدين خاصة عند الكبر لشدة الحاجة إيذاءهما أو إيذاء أحدهما بالقول أو الفعل من رفع الصوت، والتأفف والتضجر، أو الإساءة والاستثقال أو شتمهما مباشرة، أو التسبب بشتم الناس إلى شتمهما، أو مقاطعتهما عند الحديث أو تكذيبهما، أو مجادلتهما، والملاحاة معهما، أو انتقاد الطعام، أو إثارة المشكلات أمامهما مع زوجته أو أولاده أو غيرهم. يُؤخَذ مما سبق: كفران العشيرِ والإحسانِ من الكبائر. بذل النصيحة والإغلاظ بها لمن احتيج في حقه إلى ذلك. الصدقة تكفِّر الذنوب التي بين المخلوقين. عظم حق الأبوين. سب الوالدين والتسبب في سبِّهما من أفراد عقوق الوالدين. ختامًا: أسألُ اللهَ تعالى أن ينفعَ به، وأن يجعل عملَنا فيه خالصًا لوجهه الكريم، إنه خيرُ مأمولٍ، وأكرمُ مسؤول.