[ :: ملتقـــى شباب سبيـــس بــاور :: ]
(نسخة قابلة للطباعة من الموضوع)
https://spacepower.site/index.php?page=topic&show=1&id=10078
أنقر هنا لمشاهدة الموضوع بهيئته الأصلية

كم ختمة قرأت في رمضان؟
ريوزاكي 12-03-2025 09:23 صباحاً
 
كم ختمة قرأت في رمضان؟
سؤال يتعاهد به بعضنا بعضًا في رمضان؛ لنُحفِّزَ أنفسنا وإخواننا على قراءة القرآن، وهذا شيء جميل ورائع لإقامة علاقة مع القرآن الكريم بكثرة قراءته وتَرْتِيلِه.
ولكن، ماذا لو كان السؤال: كم آية تدبَّرتَ؟ كم سورة فهِمتَ؟ كم آية زادتك إيمانًا؟ ما هي السورة التي أبْكَتْكَ؟ ما القصة القرآنية التي توقَّفتَ عندها وأخذتَ منها العِبرةَ والعِظة؟ ما الكلمات القرآنية التي لم تفهمها وتوقَّفت عندها لتبحث عن معناها؟ ما الآية التي لامَسَتْ شَغاف قلبك وحرَّكته من موضعه؟ ما الآية التي جَعَلَتْكَ تدخل الجنة وتتصوَّر نعيمها كأنه رأي عين؟ ما الآية التي رهَّبَتْك وخوَّفتك من النار؟ ما السورة التي أشعرَتْك بعظمة الله؟ ما الآية التي خشع لها قلبك واقشعرَّ لها جلدك؟ ما السورة التي نزلت على قلبك بردًا وسلامًا؟
غالبًا ما نتغافل عن هذه المعاني، ونركز فقط على كمِّ القراءة، فيكون همنا آخر السورة، وآخر الختمة، دون أَنْ نُدرِكَ أَنَّ القرآن نزل لنتدبَّره، ونعمل به، ونزداد به إيمانًا وخشوعًا وتقوى؛ قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]؛ قال السعدي في تفسيره:
"﴿ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ﴾ [ص: 29]؛ أي: هذه الحكمة من إنزاله، ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها، ويتأملوا أسرارها وحِكَمَها، فإنه بالتدبُّر فيه والتأمُّل لمعانيه، وإعادة الفِكْرِ فيها مرة بعد مرة، تُدرَك بركته وخيره، وهذا يدل على الحثِّ على تدبُّر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود".
ننسى أن الله أنزل إلينا القرآن لنزداد تقوى، وليُحْدِثَ لنا التذكر والاعتبار؛ قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ﴾ [طه: 113].
ننسى أن القرآن لو أُنْزِل على جبل صلب، لَخَشَعَ وتصدَّع من خشية الله؛ ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21].
فلماذا يتأثر الجبل ولا نتأثر نحن، ونحن نحمل بين جَنَباتِنا قلوبنا؟ لماذا لا نتغير بالقرآن، رغم أننا نختمه ونسمعه في التراويح، بل ونحفظه ونردده عن ظهر قلب؟
الإجابة أننا كما قال الحسن البصري: "أُنزل القرآن ليُعمل به، فاتخذ الناس تلاوته عملًا"؛ قال ابن الجوزي: "يعني: أنهم اقتصروا على التلاوة، وتركوا العمل به".
قال الحسن البصري: "إنكم اتخذتم قراءةَ القرآن مراحلَ، وجعلتم الليل جَمَلًا تركبونه، فتقطعون به المراحل، وإنَّ من كان قبلكم رأوه رسائلَ إليهم من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، ويُنفِّذونها بالنهار".
وقال رحمه الله كذلك: "قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ﴾ [ص: 29]، وما تدبُّر آياته إلا اتباعُه، والله يعلم، أمَا والله ما هو بحفظ حروفه، وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كله، فما أسقطت منه حرفًا، وقد - والله - أسقطه كله، ما يرى له القرآن في خُلُق ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في نَفَسٍ، ما هؤلاء بالقُرَّاء ولا العلماء، ولا الحكماء ولا الوَرَعَة، متى كانت القرَّاء تقول مثل هذا؟ لا كثَّر الله في الناس من هؤلاء"؛ [الزهد لابن المبارك: 274].
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: "أُنزِل عليهم القرآن ليعملوا به، فاتخذوا درسه عملًا، إن أحدهم ليتلو القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يُسْقِط منه حرفًا، وقد أسقَطَ العمل به".
إذًا العِبرة ليست بكثرة القراءة دون فَهْمٍ وتدبُّر، بل لا بد من الفهم وقراءة تفسير الآيات، إن لم نفهمها، ثم نتدبرها، ونعرف رسائل الله لنا منها، ونعمل بها، أما من يكتفي بمجرد القراءة يكون كمن أرسل له والده رسالةً ببعض الوصايا المهمة ليعمل بها لتزداد ثروته، فإذا به يكتفي بقراءة الرسالة وحفظها، وتعليقها وتعطيرها، دون أن يعي الدرس العمليَّ منها، فهل سينتفع بالرسالة الانتفاعَ الأكمل؟
تخيَّل أن معك خريطةً لكَنز عظيم، ولكنك اكتفيت بدراسة الخريطة ورسمها، وحفظ معالمها، ولكنك يومًا لم تفكر في أن تنزل على الأرض وتبحث عن الكنز، تخيل كمَّ الخسارة التي تخسرها في هذه الحالة؟ بيدك الكنوز والدُّرر والجواهر وتُفرِّط فيها بهذه السهولة؟! ألم يأمر الله نبيَّه عليه الصلاة والسلام أن يقرأ القرآن على الناس على مَهلٍ وتأنٍّ؛ ليفهموه ويتدبروه؟! قال تعالى: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106].
ألم يصف النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم؟ كما روى مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سيخرج في آخر الزمان قومٌ أحْداثُ الأسنان، سُفهاء الأحلام، يقولون من خير قولِ البرية، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرُقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة)).
ألَا نذكر أن سيدنا عمرَ قرأ آية، فأسقطته، ومرِض شهرًا حتى زاره الناس؟ تأمل معي: آية وليست سورة.
هل تراه وصل إلى هذا التأثُّر من الآية بمجرد قراءة عابرة سريعة كما نفعل نحن؟ بالتأكيد، لا، لا بد أن كان يعيش معها ويتدبرها ويرددها، وينزلها على قلبه كثيرًا، رضي الله عنه.
لن نصل لهذا التأثر بكلام الله، والارتباط به، إلا عندما نعطيه حقه من السماع بإنصات وتفهُّم، وتعقُّل وقراءة، وتفسير، وغوص في معانيه التي لا تنفد؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [لقمان: 27].
مدارسةُ سورةٍ واحدة، ومعايشتها، والعيش معها ومع معانيها، وقراءة رسائل الله لك فيها، ومحاولة العمل بها - خيرٌ من الختمة تلو الختمة، إذا كانت دون تدبُّرٍ وتفهُّمٍ.
ولن تعرف أهمية ما أقول وتستوعبه حتى تتذوَّقه بنفسك، ستشعر وقتها أن هناك علاقة بينك وبين كلمات ربك، سيزيد ارتباطك بالقرآن، سينزل القرآن على قلبك غضًّا طريًّا، فتعيش به، وتمشي به بين الناس؛ قائلًا: كلام ربي، كلام ربي.
وعن تجربة شخصية، عندما تفضَّل الله عليَّ بهذه المنهجية في التعامل مع القرآن، وبدأت أطبِّقها تغيَّرت علاقتي بالقرآن كثيرًا كثيرًا، كنت قبل ذلك أتعجب من قول سيدنا عثمان: "لو طهُرت قلوبكم، ما شبِعت من كلام ربكم".
وقلت: أتساءل في نفسي: لماذا لا أشعر بهذه المعاني، رغم أني أحرص على تلاوة القرآن وحفظه؟
ولكن لما بدأت طريق التدبُّر - وما زلت في أوله - أدركت معنى مقولة سيدنا عثمان السابقة.
أذكر أني في أحد الرمضانات بدلًا من أن أضع هدفًا أن أختم القرآن مرتين أو ثلاثة أو أكثر، بدلًا من ذلك حددت سورةً واحدة أعيش معها في رمضان، قرأت تفسيرها من أكثر من تفسير، وحاولت الاستماع إليها يوميًّا من صوت أُحِبُّه، وسمعت تفسير أحد المشايخ لها، وكذلك حاولت الصلاة بها قدر الاستطاعة، وبفضل الله استمتعت بالسورة، وأدركت الكثير من المعاني التي كانت غائبة عني فيها.
أما إذا كنت تسأل: كيف أبدأ طريق التدبُّر؟
فالأمر بسيط ويسير إن شاء الله، أولًا حدِّد سورة واحدة تحبها، وحبذا لو كانت قصيرة في البداية، استمع لها يوميًّا من أحد القرَّاء، اقرأ تفسيرها من أكثر من تفسير، يمكنك البدء بالتفسير الميسر، أو تفسير السعدي، أو تفسير أبي بكر الجزائري، أو غيرها من التفاسير المبسطة كبداية، وستجد الكثير من كتب التفسير في تطبيق الباحث القرآني، أو أي تطبيق آخر، ثم اقرأ السورة على مكث، وفي هدوء، وبتأنٍّ وتُؤَدَةٍ، وتوقَّف مع كل آية، وحاوِلْ تدبُّر معانيها، ومعرفة ماذا يريد الله منك في هذه الآية، وحاول استخراج وصايا عملية من السورة، وأكْثِرْ من الصلاة بها.
ستشعر وقتها بهذه النعمة العظيمة التي بين أيدينا، وهذه الكنوز التي نغفُل عنها ونتركها، دون أن نستمتع بها، ونتلمس فيها الهداية والشفاء.
ولِمَ لا، وهو كلام ربي، وأحق القول قول ربي؟
[ :: ملتقـــى شباب سبيـــس بــاور :: ]

Copyright © 2009-2025 PBBoard® Solutions. All Rights Reserved